Baseerasincolor - the campaign
<

ثقافة البوفيه «السياسى» المفتوح


د.ماجد عثمان

مايو-2014



كثير من المطاعم تتيح أمام روادها أحد بديلين، إما أن يختار من قائمة الطعام أو أن يختار البوفيه المفتوح. وتضم قائمة الطعام الوجبات المختلفة مع توضيح سعر كل وجبة ومكوناتها، وإذا اخترت القائمة فإن عليك أن تحدد أولوياتك وتحاول أن تختار من البدائل المطروحة أمامك فى ضوء تفضيلاتك، وأيضا فى ضوء قدرتك على الدفع وقدرتك على الهضم. أما فى حالة البوفيه المفتوح فإن من حقك أن تملأ طبقك من كل الأصناف حتى وإن كنت على ثقة أن معدتك لن تستطيع تناول كل ما ملأت به طبقك. وفى حالة قائمة الطعام فإنك يجب أن تعرف ما تريد، أما فى حالة البوفيه المفتوح فيكفى أن تعرف ما لا تريد.

ويبدو لى أن هناك تشابها كبيرا بين تناول الطعام وبين تعاطى السياسة. لا شك أن الطعام يشغل دائما مساحة كبيرة من اهتمام المصريين، ولا شك أيضا أن الاهتمام بالشأن العام، وبالسياسة أصبح ينافس الأولويات الحياتية للمواطن المصرى بشكل غير مسبوق وأصبح يشغل حيزا متسعا من تفكير المصريين. لعل التشابه يبدو أكثر وضوحا فى هذه المرحلة التى يبدو فيها أن المصريين يعرفون ما لا يريدون ولكن لا يعرفون ما يريدون. وبالتالى فهم يتعاملون مع الشأن السياسى بثقافة البوفيه المفتوح وليس بثقافة الاختيار من قائمة وفقا لأولويات. فالمصريون لا يريدون بالتأكيد «الفاءات» الثلاث الفقر والفساد والفرقة، وبالتالى فلن يختاروها فى البوفيه «السياسى» المفتوح، وسيضعوا فى أطباقهم كل شىء: تعليم متميز لكل طالب، تأمين صحى شامل لكل مواطن، عمل حكومى دائم فى القطاعات التى تدفع مرتبات مرتفعة (البترول، الاتصالات، الاستثمار) لكل شاب، مسكن بإيجار زهيد لكل أسرة، أسعار ثابتة للسلع والخدمات، إلخ. وربما الفارق بين بوفيه الطعام المفتوح والبوفيه «السياسى» المفتوح أن الأول مدفوع الثمن، ويحاول المشترى تعظيم العائد الذى يحصل عليه مقابل ما يدفعه، أما البوفيه الثانى فهو مجانى ولا تحده أى محددات ولا تحجمه أية قيود.

لا أدرى ما ستكون عليه برامج مرشحى الرئاسة، ولكنى أتمنى ألا تميل لثقافة البوفيه المفتوح. إن سقف التطلعات حاليا مرتفع بدرجة كبيرة والحكمة تقتضى أن تحاول النخب السياسية ترشيد هذه التطلعات ليس لأنها غير مشروعة ولكن لأنها غير ممكنة. وحتى يكون تحليلى أكثر موضوعية أشير إلى نتائج استطلاعات للرأى العام أجراها المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» تم فيها توجيه السؤال التالى «هل تتوقع أن تكون أحوالك المعيشية فى السنة المقبلة: أفضل/كما هى/أسوأ»، وكانت الاستجابات التى تم جمعها من عينة من حوالى ألفى مواطن موزعين على المحافظات المختلفة، على النحو التالى:

< عندما تم توجيه السؤال فى شهر يونيو 2013، بلغت نسبة الذين قالوا إنهم يتوقعون أن حالتهم المعيشية ستكون أفضل 20% فقط مقابل 50% قالوا إنهم يتوقعون أن تكون أسوأ، وتوزعت باقى العينة بين من قال إنه لا يتوقع أن تتغير أحواله المعيشية فى العام المقبل (8%) ومن قال إنه غير متأكد (22%).

< عندما تم توجيه نفس السؤال فى سبتمبر 2013، جاءت النتائج مختلفة بشكل كبير، فقد ذكر 70% أنهم يتوقعون أن تكون أحوالهم المعيشية أفضل فى العام المقبل، وفى المقابل 5% فقط قالوا إنهم يتوقعون أن تكون أسوأ، وكانت نسبة من قالوا إن أحوالهم لن تتغير 5% أو أنهم لا يعرفون 17%.

< عندما تم تكرار توجيه السؤال فى فبراير 2014، جاءت النتائج متسقة بشكل كبير مع نتائج سبتمبر 2013، فقد ذكر 70% أنهم يتوقعون أن تكون أحوالهم المعيشية أفضل فى العام القادم، وفى المقابل 7% فقط قالوا إنهم يتوقعون أن تكون أسوأ، وكانت نسبة من قالوا إن أحوالهم لن تتغير 13% أو أنهم لا يعرفون 10%.

من المؤكد أن نسبة كبيرة من الشعب المصرى كانت فى نهاية فترة حكم الرئيس السابق مرسى قلقة من المستقبل، وقد تحول هذا القلق بعد 30 يونيو إلى ارتفاع حاد فى نسبة المصريين الذين يتوقعون أن تتحسن حالتهم المعيشية فى العام المقبل. وبقدر أهمية التفاؤل بالمستقبل فى حياة الشعوب إلا أن هناك خطرا ماثلا يجب عدم التقليل منه إذا لم تتحقق التوقعات.

يضاف إلى ذلك أن تحقيق التطلعات المشروعة للمواطن المصرى فى حياة أفضل سيكون مستحيل ما لم يتم تعديل الخلل الواضح فى معادلة الحقوق والواجبات. فمن المنطقى أن ترتبط زيادة الحقوق بزيادة فى الواجبات وهى فكرة بديهية، ولكنها تغيب تماما عن المجال العام.

وتجنبا لإثارة أية حساسية سأضرب مثالا بنفسى، فأنا أستاذ بجامعة القاهرة وخلال العام الماضى قامت الحكومة برفع رواتب أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية بدرجة أظنها لم تحدث من قبل، فقد تضاعف مرتب كل أعضاء هيئة التدريس فى الجامعات الحكومية. إلا أن الغريب أن واجباتنا لم تتغير، فلم يُطلب من أعضاء هيئة التدريس مزيدا من العمل أو الالتزام بساعات تواجد داخل الأقسام العلمية، ولم ترتبط الزيادة فى الراتب بإنجاز علمى أو بدور فى مجال خدمة المجتمع، وبالتالى فلم تؤثر مضاعفة مرتبات أعضاء هيئة التدريس على جودة التعليم الجامعى. وظل المخلص فى عمله والمتفانى فى أداء رسالته السامية كما هو وظل الآخر دون تحسن فى أداء أو زيادة فى عطاء. وضاعت فرصة ذهبية لتحقيق مبدأ الكل فائز يستفيد منه الأستاذ الجامعى وعلى التوازى يتقدم التعليم خطوات إلى الأمام.

والخلاصة التى يجب ألا تغيب عن الرئيس القادم أن التحدى الأكبر أمامه ليس إدارة الموارد وإنما إدارة التوقعات، والخلاصة التى يجب ألا تغيب عن المواطن أن الحصول على مزيد من الحقوق والمكاسب دون أن يقابل ذلك مزيد من الإنتاج ضرب من المستحيل ومن يتصور أن ذلك ممكن من النخب السياسية فهو إما مضلَل أو مضلِل.



الشروق