Baseerasincolor - the campaign
<

استطلاعات الرأى العام الهاتفية فى الميزان


د.ماجد عثمان

مايو-2012



قياس الرأى العام ليس بالمهمة اليسيرة ولكنه بالقطع ضرورة من ضرورات التحول إلى نظام سياسى حر يؤمن بحق الفرد فى المعرفة وبحقه فى الاختيار. وهناك عدد من الوسائل التى يمكن استخدامها فى التعرف على اتجاهات وميول المواطنين. إحدى هذه الوسائل المقابلات الشخصية التى يقوم من خلالها باحث ميدانى مدرب بإجراء مقابلة شخصية مع «مبحوث» بناء على استمارة مقننة للتعرف على اتجاهاته وميوله تجاه موضوع ما. وهناك أسلوب المقابلة الهاتفية. حيث يقوم الباحث بإجراء المقابلة من خلال الهاتف الأرضى أو المحمول.

وهناك أسلوب آخر يعتمد على إرسال الاستمارة بالبريد لمجموعة من الأشخاص يقومون بإعادة إرسالها بعد الرد على الأسئلة المتضمنة فى الاستمارة، وفى ضوء تراجع البريد الورقى لصالح البريد الإلكترونى والانتشار الواسع للإنترنت ظهر اتجاه لتبادل هذه الاستمارات من خلال البريد الإلكترونى أو إتاحتها على موقع إلكترونى يقوم المستجيب من خلاله باستيفاء أسئلة الاستمارة وإرسالها مباشرة.

والأساليب المذكورة لكل منها مزايا وعيوب، ويفرض استخدام أى من هذه الأساليب محدودية على النتائج، يجب أن يفصح عنها القائم بالدراسة بشفافية وحيادية، وذلك من منطلق الالتزام الأخلاقى والمسؤولية المعنوية تجاه المجتمع الذى يتلقى نتائج استطلاعات الرأى العام، وغنى عن البيان أن الجمهور العام ليس بالضرورة متخصصاً فى هذه الجوانب المنهجية.

والتجارب العالمية فى استخدام هذه الأساليب ثرية وتمتد لأكثر من قرن من الزمان والأدبيات العلمية زاخرة بالدروس يعرفها القائمون على إجراء استطلاعات الرأى العام، ويجب أن يعرفها الإعلاميون والمحللون السياسيون الذين يصدر عنهم فى بعض الأحيان أحكام انطباعية ترسم صورة ذهنية عن إحدى وسائل قياس الرأى العام كأن يقال إن المقابلات الشخصية يتم «فبركتها» ولا يقوم الباحث بزيارة الأسر فى مساكنها وإنما يستوفى هذه الاستمارات بنفسه، وهذه المقولة يمكن أن تحدث، ولكن حدوثها يعتبر بمثابة خرق للمهنية يجب ألا يدعونا لرفض أسلوب المقابلة الشخصية الذى يكون مناسباً فى بعض المواضع.

أو أن يقال إن أسلوب المقابلة الهاتفية غير ملائم للثقافة المصرية ولم يعتد عليه الشعب المصرى، وأن المواطن المصرى يخشى الإدلاء برأيه من خلال الهاتف، وهى مقولة تفتقر إلى الأسانيد العلمية السليمة وتتجاهل ثورة أدت إلى كسر حاجز الخوف لدى المصريين بصورة غير مسبوقة، وأدت إلى تحول لا تخطئه العين فى سلوك المواطن المصرى البسيط نجم عنه اهتمام بالشأن العام بعد أن كان موصوماً -ولعقود طويلة- بأنه يؤثِر السلامة، وأنه غارق فى مشكلاته اليومية وغير معنى بالهم العام.

وقد وجدت استطلاعات الرأى العام المعنية بقياس تفضيلات المصريين نحو مرشحى الرئاسة اهتماماً جماهيرياً فى الأسابيع القليلة الماضية. وطرحت وسائل الإعلام العديد من وجهات النظر. والاتجاه العام لهذه الأطروحات كان مرحباً بوجود مراكز تعمل فى مجال استطلاعات الرأى العام، باعتبار أن توافر قياسات للرأى العام تتم بحيادية ومهنية هو أحد متطلبات التحول الديمقراطى، وأن توفير هذه القياسات للمواطن يُلبى حقه فى المعرفة، وهو حق أصيل كفله الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وكفلته الدساتير الوطنية فى كل الدول التى تعتبر أن المواطن هو السيد.

إلا أنه لوحظ أيضاً أن هناك اتجاها آخر ذهب إلى التشكيك فى استطلاعات الرأى العام واعتبرها كما لو كانت جريمة نكراء تنفذها مجموعات متواطئة مع أحد المرشحين بهدف التأثير فى الرأى العام وليس قياسه بحيادية، ورد الفعل المتشكك فى استطلاعات الرأى العام برمتها هو جزء من أزمة الثقة التى يعيشها المجتمع المصرى والتى أدت إلى تقييم كل شىء انطلاقاً من الحكمة القائلة بأن سوء الظن من حسن الفطن، وعلى التوازى لا يتذكر معظم الناس أن بعض الظن إثم، وعلى صعيد آخر تناست هذه الآراء المشككة الدور الإيجابى الذى لعبته وتلعبه استطلاعات الرأى العام ليس فقط فى الدول الديمقراطية ولكن أيضاً فى دول أوروبا الشرقية فى مرحلة التحول الديمقراطى ودول أمريكا الجنوبية، ناهيك عن الهند وعدد من الدول الأفريقية والآسيوية التى لا تختلف عن مصر فى مستوى التعليم.

ويبدو هذا الاتجاه كما لو كان مؤيداً -ربما دون أن يدرى- لمقولة إن الشعب المصرى غير جاهز للديمقراطية، وهى مقولة تتنافى مع ما فرضته ثورة 25 يناير، ومع التسليم بأن التحول الديمقراطى لا يتم فوراً بمجرد قص الشريط وإنما يستغرق فترة، وأن هذه الفترة قد تشهد أخطاءً، ولكن يجب أن نتفق على أن اختصار هذه الفترة والحد من أخطائها هو رهن باستكمال البناء المؤسسى للدولة الحديثة وأحد أركانه وجود مراكز لها مصداقية فى قياس الرأى العام.

وقد تطرقت وسائل الإعلام فى الأسابيع القليلة الماضية أيضاً إلى الوسيلة المستخدمة فى استطلاعات الرأى العام. وقد كان هناك بعض الهجوم الموجه إلى إجراء استطلاعات الرأى العام باستخدام الهاتف. ومع كل التقدير للأساليب الأخرى المستخدمة فى استطلاعات الرأى العام، إلا أننى أرى أن استطلاعات الرأى العام الخاصة بانتخابات الرئاسة يجب أن تتم باستخدام الهاتف بنوعيه الثابت والمحمول، وذلك للأسباب الآتية:

1- استخدام الهاتف فى استطلاعات الرأى العام يسمح بإصدار النتائج فى فترة زمنية وجيزة، وهو عنصر حاكم عند إجراء استطلاعات للرأى العام حول انتخابات الرئاسة، وقد شهدنا فى الأسبوعين الماضيين أحداثاً متلاحقة تجعل مدة صلاحية النتائج لا تسمح بإجراء استطلاعات رأى تعتمد على مقابلات ميدانية يستغرق تنفيذها عدة أيام، وهو ما أشار إليه خبراء مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بشجاعة وموضوعية تُحسب لهم عند عرض جريدة الأهرام فى عددها الصادر فى 23 إبريل لنتائج الاستطلاع الذى تم خلال الفترة من 14 إلى 17 إبريل.

2- استطلاعات الرأى التى أجراها المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» حول انتخابات الرئاسة يتم إجراؤها فى يوم واحد، وذلك حتى نضمن أن اتجاهات الرأى العام لم تتغير أثناء جمع البيانات، فمثلاً إجراء استطلاع الرأى العام بالمقابلة الشخصية على مدى أسبوع لا يضمن أن اتجاهات الرأى العام تجاه المرشحين للرئاسة فى اليوم الأول تتطابق مع اتجاهات اليوم الأخير، وهو تحول وارد فى ظل الأحداث المتسارعة من دخول وخروج فى سباق الرئاسة وتحالفات وحملات إعلانية ومناظرات تليفزيونية. وإذا كان إجراء مسح ميدانى على مستوى الجمهورية ممكناً نظرياً فى يوم واحد إلا أن ذلك سيكون بلا شك على حساب جودة جمع البيانات، وهى مواءمة تُعرض سمعة الجهة القائمة على الاستطلاع للخطر.

3- جرت العادة عند إجراء استطلاعات الرأى العام بواسطة المقابلات الشخصية أن يتم استبعاد سكان المحافظات الحدودية، وهى محافظات مطروح وسيناء الشمالية والجنوبية والبحر الأحمر والوادى الجديد، وذلك بسبب ندرة السكان من ناحية، وبسبب الانتشار الجغرافى الواسع فى هذه المناطق. وهو ما يؤدى إلى ارتفاع تكلفة جمع البيانات إذا ما تم بأسلوب المقابلات الشخصية. أما فى حالة استخدام الهاتف فلا يتم استبعاد المحافظات الحدودية ومن ثَم لا يتم تغييب الرأى العام لسكان جزء عزيز على قلب كل مصرى.

4- تحليل مدى انتشار الهاتف الأرضى والمحمول على مستوى الجمهورية يُظهر النمو السريع فى انتشار الخدمة الهاتفية، وتشير أحدث البيانات إلى أن 84% من الأسر المصرية لديها هاتف أرضى أو محمول، وأن هذه النسبة مرشحة للزيادة ، ومقولة إن «الخدمة الهاتفية مقصورة على أصحاب الدخول المتوسطة والمرتفعة فقط» هى مقولة غير صحيحة إذا أخذنا فى الاعتبار أن الخدمة الهاتفية تضم الهاتف الثابت والهاتف المحمول. وتجدر الإشارة إلى أن نحو 42% من الأسر المصرية لديها هاتف محمول وليس لديها هاتف ثابت، وهذه المجموعة من الأسر تشمل سكان الريف وسكان بعض المناطق العشوائية التى لا تتوافر فيها خدمات الهاتف الأرضى ومن المعروف أن جمع البيانات بأسلوب المقابلة الشخصية تكتنفه صعوبات مضاعفة فى المناطق العشوائية والتى يمكن النفاذ إليها بسهولة من خلال الهاتف.

5- إن الأوضاع الأمنية التى يشهدها المجتمع المصرى بنت حائطاً من الخوف من استقبال الباحث الميدانى الذى يجرى مقابلة شخصية فى المنازل، وهذا الشعور يؤدى إلى زيادة نسبة رفض المقابلات الشخصية. كما أن تنامى الاتجاه المحافظ يضيف أيضاً إلى نسب عدم الاستجابة فى حالة المقابلات التى تتم من خلال زيارات منزلية. وتكمن خطورة ذلك فى التحيز المحتمل فى النتائج فى ظل نسبة عدم استجابة مرتفعة لشرائح اجتماعية قد يكون لها سلوك تصويتى مختلف عن باقى شرائح المجتمع. ولا شك فى أن استخدام الهاتف يتغلب على هذه العقبات.

6- هناك بعض الدعاوى تقول إن الهواتف قد تخضع للرقابة من جهات أمنية، ومن ثم فإن المواطن يخشى من الإدلاء برأيه من خلال الهاتف. وهذه الحجة لا تُرجح بأى حال من الأحوال تفضيل المقابلة الشخصية على الهاتفية، لأن المقابلة الشخصية تتم فى المنازل ويكون عنوان المسكن معروفاً ومسجلاً فى استمارة الاستقصاء، كما أن اسم الشخص وصورته يكونان معروفين لدى من يقوم بإجراء المقابلة. وإذا افترضنا فيه أنه «مباحث وليس باحثاً» فيمكنه تسجيل اللقاء وتصويره إذا أراد ذلك. ولكننى أرى أن هذه الدعاوى يجب أن تختفى فى مصر الجديدة التى تتطلع إلى دستور يكفل الحريات وعلى رأسها حرية التعبير، وأن هذا الدستور سيواكبه، بلا شك، قوانين تجرم الكشف عن خصوصية البيانات الشخصية فى التعدادات والمسوح الميدانية واستطلاعات الرأى العام. والقانون المصرى الحالى يتضمن نصوصاً تضمن الحفاظ على ذلك، وإن كانت العقوبات المنصوص عليها تحتاج إلى تغليظ لتحقيق مزيد من الضمانات لحرية التعبير والحفاظ على خصوصية المشاركين فى استطلاعات الرأى العام.

7- ولا أريد أن أترك القارئ بانطباع أن استطلاعات الرأى العام بواسطة الهاتف هى الوسيلة الفضلى فى كل الأحوال، أو أن يُظن عند قراءة هذا المقال أننى أعترض على استخدام المقابلة الشخصية بصفة عامة. كما لا أريد أن أترك انطباعاً بأن استطلاعات الرأى العام الهاتفية خالية من العيوب المنهجية أو الصعوبات العملية، فإن لكل أسلوب مزاياه وعيوبه. كما لا أريد أن أترك انطباعاً بأننى أشن هجوماً من خلال هذا المقال على الزملاء الذين يجرون استطلاعات للرأى العام حول انتخابات الرئاسة باستخدام المقابلة الشخصية. فالحقيقة أننى أحمل لهم كل الاحترام وأرى أنهم يقومون بعمل شاق ورائع. ولدىّ قناعة بأن ظهور استطلاعات للرأى العام يتم إجراؤها بأساليب مختلفة هو ظاهرة صحية تصب فى النهاية فى صالح المواطن الذى نهدف جميعاً -نحن العاملين فى مجال قياس الرأى العام- إلى تلبية حقه فى المعرفة وهذا التنوع فى المنهجيات والأساليب يتيح للمواطن مساحة أكبر من الحقيقة التى ربما لا تنكشف من خلال مركز واحد أو منهجية واحدة.

8- وربما سيكون من المفيد الانتقال بالقارئ من المشهد المحلى إلى المشهد العالمى، ونشير إلى أن إجراء استطلاعات الرأى العام الخاصة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية يتم فى معظم الدول وباستثناءات قليلة باستخدام الهاتف. ومعظم المؤسسات العاملة فى مجال قياس الرأى العام تستخدم عينة من الهواتف الثابتة والهواتف المحمولة، نظراً للتحول الذى يشهده العالم من الهاتف الثابت للمحمول. كما نشير إلى أن الاتجاه نحو استخدام الهاتف بنوعيه قد بدأ منذ عقود وتزايد هذا الاستخدام على نحو متسارع فى كل دول العالم. ووفقاً لموقع مؤسسة جالوب وهى أكبر مؤسسة تعمل فى مجال قياس الرأى العام فى العالم، فإن معظم استطلاعاتها تتم باستخدام الهاتفين الثابت والمحمول.

www.gallup.com/poll/101872/how-does-gallup-polling-work.aspx

9- ولما كان زمار الحى لا يطرب، فليسمح لى القارئ العزيز بأن أشير إلى محاضرة ألقاها «جون زغبى» فى القاهرة يوم 8 مايو الجارى. ومؤسسة «زغبى» هى إحدى أهم المؤسسات الأمريكية فى مجال قياس الرأى العام، ولها عديد من الأنشطة التى تتم خارج الولايات المتحدة الأمريكية، من ضمنها نشاط أشار إليه صاحبها، وهو إجراء استطلاع رأى عام حول تفضيلات المصريين للرئيس القادم تم فى بداية الأسبوع الماضى. فى نهاية المحاضرة سأله أحد الحاضرين حول إجراء استطلاعات الرأى بالهاتف ومدى دقة النتائج التى تعتمد على استطلاعات الرأى الهاتفية. وأجاب زغبى بعفوية: «أذكر أن مثل هذه النقاشات كانت تدور فى الولايات المتحدة فى نهاية الستينيات. ولكنها سرعان ما حُسمت».

فهل بعد كل هذا نستكثر على المصريين الإدلاء برأيهم عبر الهاتف.



المصري اليوم