Baseerasincolor - the campaign
<

العزاء على نفقة الدولة


د.ماجد عثمان

مارس-2013



شهدت المجتمعات البشرية أدوارًا مختلفة للدولة من حيث مدى مسئولياتها عن مواطنيها، وامتد هذا الدور أو انحسر نتيجة لتبنى فلسفة رعوية أو التراجع عنها. وتقلص هذا الدور فى أحيان كثيرة نتيجة لعدم قدرة الدولة على الوفاء بتعهداتها نتيجة لظروف اقتصادية. وفى مصر، شهدت فترة الستينيات توسعاً لهذا الدور شمل التوسع فى توفير الغذاء والتعليم والعلاج والسكن والوظيفة، مع قيام الدولة بدور رعوى فى تحمل كل أو جزء كبير من تكلفة هذه السلع والخدمات. ثم تراجعت الدولة المصرية عن الوفاء بالتزاماتها لأسباب عديدة منها عدم قدرة الاقتصاد المصرى على توفير الموارد الكافية والفشل فى تخفيض الهدر والحد من الفساد فى إدارة منظومة المساندة الاجتماعية وعدم القدرة فى أحيان كثيرة على الوصول إلى الطبقات الأولى بالرعاية.

ونظراً لصعوبة التراجع المعلن عن هذه الأدوار فقد احتفظنا بمجانية التعليم مع تراجع نوعيته حتى اقتصرت المجانية على الحصول على الشهادة التى تثبت أن الحاصل عليها متعلم بغض النظر عن محتوى ما تعلمه. وما حدث فى التعليم حدث بشكل أو آخر فى الصحة والإسكان والتوظيف. ولا أقلل من صعوبة وربما استحالة إاستدامة تقديم حزمة خدمات متكاملة فى بلد يزيد فيه الإنجاب ويقل فيه الإنتاج. إلا أن المتأمل للشأن المصرى يجد أن الدولة المصريةــ والتى تراجعت عن العلاج على نفقة الدولة والتعليم على نفقة الدولة والسكن على نفقة الدولة والعمل على نفقة الدولة ــ لم تتراجع عن العزاء على نفقة الدولة، وهى مفارقة من ضمن المضحكات المبكيات.

وأقصد بالعزاء على نفقة الدولة قيام الوزراء ورؤساء المؤسسات الحكومية بنشر إعلانات فى صفحة الوفيات لنعى زملائهم أو مرؤسيهم أو لمشاطرتهم عند وفاة أحد أقاربهم. وهى مشاعر نبيلة وتعكس أحاسيس مرهفة تُحمد لهؤلاء المسئولين. وثقافة العزاء فى مصر استمدت روافدها من حضارة فرعونية وقبطية وإسلامية، وامتزجت لتنتج ثقافة فريدة تعيد إنتاج الموت ليصبح حياة يقتات منها الكثيرون. وعلى الصعيد المؤسسى أصبحت التعازى الحكومية مجالاً لتحقيق مصالح فردية من مجاملات وعلاقات عامة على حسب المجتمع، تحت ستار من المشاعر الإنسانية الرقيقة.

والسؤال الذى يفرض نفسه بقوة هل يجوز استخدام المال العام فى تمويل هذه الإعلانات حتى مع افتراض نبل المقصد؟ وحتى إذا كانت مصر دولة غنية جدًا، أو كانت أغنى دولة فى العالم فهل يجوز أن تكون التعازى الميرى هى أحد مصارف أموال دافع الضرائب؟ ألا توجد أولويات أخرى مثل التعليم أو الصحة أو الخدمات الأساسية يمكن أن توجه إليها هذه الأموال؟ وهل تسمح الظروف الاقتصادية التى تمر بها مصر بهذا الترف والتبزير؟ ألا يتذكر المسئول عن نشر هذه الإعلانات أن هناك مرضى لا يستطيعون دفع نفقات علاجهم أو طلبة جامعيين لا يملكون ثمن المصروفات الدراسية أو أسر تسكن فى منازل بدون سقف ولا تصلهم المياه النقية.

حديثى عن إعلانات العزاء على نفقة الدولة ليس إنطباعياً ولكنه مبنى على دراسة بسيطة قمت بها لرصد هذه الظاهرة اعتماداً على المشاطرات «الميري» المنشورة فى جريدة الأهرام فى الأسبوعين الأخيرين من شهر فبراير. وقمت بحصر مشاطرات العزاء الحكومية والتى أمكننى تصنيفها إلى نوعين:

• النوع الأول من التعازى يتصدره اسم الوزير ومنصبه والسادة مساعدى الوزير واسم الوزارة ثم نص المشاطرة واسم المتوفى. وعادة ما يكون اسم السيد الوزير منشوراً ببنط أكبر من اسم المتوفى! وعادة ما يتم نشر اسم الوزير على سطرين! وهذه الصيغة هى صيغة تستوجب بالضرورة أن يتم تمويلها من ميزانية الوزارة أو المؤسسة المعنية، أى من أموال دافع الضرائب. وقد وجدت أنه خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر فبراير تم نشر 41 مشاطرة، أى أن عدد المشاطرات السنوى يصل إلى حوالى ألف مشاطرة. وعلى الأرجح فتكلفة هذه المشاطرات تقترب من 5 ملايين جنيه سنوياً. وهذه الملايين الخمسة يمكنها أن تبنى مدرسة أو ترمم 10 مدارس أو تشترى 5 عربات إسعاف أو تخلق 100 فرصة عمل أو تقرض 500 مشروع صغير.

وهنا يلزم الإشارة إلى أن رئيس مجلس الوزراء يصدر فى بداية كل سنة منشوراً ليؤكد على السادة الوزراء ورؤساء المصالح الحكومية ضرورة ترشيد الإنفاق الحكومى، وهذا المنشور يتضمن إشارة صريحة لحظر نشر إعلانات ضمن الاجتماعيات من تهانى أو تعازى، وأغلب الظن أن الوزراء قد قرأوا هذا المنشور.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك عددا من الوزارات وليس كلها هى التى تنشر التعازى. وتبدو قمة التناقض فى أن أكثر الوزارات نشراً لإعلانات التعازى هى بالمصادفة الوزارة المسئولة عن تطبيق القانون. كما أن هناك عدد غير قليل من هذه التعازى نشرها أحد الأجهزة الرقابية التى تمطر أجهزة الدولة بالملاحظات حول إهدار المال العام!

• النوع الثانى من التعازى لا يتسم بنفس القدر من وضوح النوع الأول وإنما يشير إلى جمعيات أو نوادى العاملين بالوزارات أو الهيئات القضائية أو الكليات الجامعية، ويبدو أن تمويل هذه الإعلانات يتم من خلال صناديق خاصة غير خاضعة للضوابط المفترض انطباقها على إهدار المال العام. ومن الواضح أن معظمها يلتف على ضوابط الانفاق الحكومى وينفق من المال العام على هذه الإعلانات بشكل مستتر. وعدد هذه الإعلانات يصل إلى  أربعة أضعاف عدد الإعلانات من النوع الأول وإن كانت أصغر من حيث المساحة. وهذا النوع من الإعلانات يتطلب مزيداً من الرقابة على إنفاق هذه الصناديق أو الحسابات الخاصة أو إيرادات الوحدات ذات الطابع الخاص والتى يفترض الإنفاق منها على أمور أكثر أهمية.

والتجاوزات المشار إليها فى استخدام المال العام فى التعازى قد لا تكون إلا مثالاً لما يحدث من إساءة استخدام موارد نادرة على توافه الأمور فى بلد يعانى من أزمة اقتصادية لا ينكرها أحد. ولكن دلالات هذا المثال تكمن فى الجهر به دون أن ترتعد الأوصال خوفاً من مسائلة أولى الأمر أو حتى دون أن تحمر الوجوه خجلاً من غصة فى حلق الأولى بالرعاية.

وبصرف النظر عن المساءلة الغائبة التى يجب تطبيقها للقضاء على إهدار المال العام فى إعلانات التعازى، فإن تعامل الموظف العام مع المال العام يحتاج إلى مراجعة. ومثل هذه المراجعات تحتاج إلى لحظات تاريخية وقيادات استثنائية ينجم عنها تحول نهضوى يضع مصر على بداية الطريق الصحيح. ومن المؤكد أن ثورة 25 يناير كانت لحظة تاريخية مواتية لإحداث تغيير حقيقى يتجاوز تغيير الأشخاص إلى إحداث تحول ثقافى وقيمى ولكن غياب القيادات الاستثنائية التى لا تنظر تحت أقدامها أضاع على مصر فرصة ثمينة لتحول حقيقى ربما سيطول انتظاره.



الشروق