Baseerasincolor - the campaign
<

للواقع أكثر من وجه


احمد جلال

ديسمبر-2017



كنت مفتوناً بكتب ومنطقية الأستاذ عباس محمود العقاد فى مرحلة الثانوية، ولم أترك له كتاباً إلا وقرأته. من الأفكار التى علقت فى ذهنى منذ ذلك الحين إشارته فى مقدمة كتابه عن حياته إلى أن شخصيته لها ثلاثة أوجه: العقاد كما يرى نفسه، والعقاد كما يراه الآخرون، والعقاد كما يراه الله. واختار العقاد بوعى شديد أن يكتب عن العقاد كما يعرفه العقاد.

شىء من هذا القبيل يحدث عند توصيف الواقع، وهناك على الأقل ما يمكن تسميته «الواقع الموضوعى» و«الواقع الشخصى». الواقع الموضوعى يعتمد على الأرقام الصادرة، على سبيل المثال، عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أما الواقع الشخصى فيعتمد على استطلاع آراء الموطنين تجاه مختلف القضايا. من المنطقى أن تتوافق الأرقام وآراء المواطنين على أساس أنهما قراءتان لنفس الواقع، إلا أن ذلك لا يحدث دائما. هل هذه الفجوة بين الواقعين ظاهرة متكررة؟، ما هى الأسباب وراءها؟، وأخيرا، هل يستطيع السياسيون تجاهل الرأى العام إذا حالفتهم الأرقام؟.

هذه الأسئلة دارت فى ذهنى أثناء حضورى احتفال مركز «بصيرة»، فى نوفمبر الماضى، بمناسبة مرور خمسة أعوام على تأسيسه. ولمن لا يعرف، هذا المركز يقوم بمسوح رأى علمية ومحايدة لكشف ما يراه المصريون فى قضايا شتى. فى هذه الاحتفالية، شرفت بإدارة جلسة تحدث فيها «جون كليفتون»، المدير التنفيذى لمعهد «جالوب» الدولى. العرض والنقاش الذى تلاه كانا فى غاية الثراء، ليس فقط لخبرة محدثنا فى 160 دولة، ولكن لأن الحضور ضم نخبة متميزة من المصريين. النقطة التى استوقفتنى هى أن محدثنا حاول إقناع الحضور بأن استقراء آراء المواطنين لا يقل مصداقية عن الأرقام الصادرة عن المؤسسات الرسمية، وأن له من التأثير ما قد يفوقها.

لا أختلف كثيراً عما ذهب إليه كليفتون، واسمحوا لى بعرض مثالين من الأمثلة التى ذكرها لمساندة وجهة نظره. فى أمريكا، ارتفع متوسط دخل الفرد (مقاساً بالقوة الشرائية للنقود بالأسعار الجارية بالدولار) من 46 ألفا عام 2006 إلى 57 ألفا عام 2016. فى نفس الفترة تدنى مستوى الرضا بين المواطنين من 62% إلى 50% (العام الذى تمت فيه الانتخابات الرئاسية). فى مصر، ارتفع متوسط دخل الفرد (بنفس المقياس السابق) من 8 آلاف عام 2005 إلى 11 ألفا عام 2011، ومع ذلك تدنى مستوى الرضا بين المواطنين من 28% إلى 9% (عام الثورة على نظام مبارك). الأمثلة على وجود فجوة بين الواقع الموضوعى (مقاسا هنا بمتوسط دخل الفرد) وإحساس المواطن بالرضا كثيرة، لكن أكتفى بهذين المثالين.

كيف نفسر هذه الفجوة؟، من الممكن، أولا، أن تكون البيانات بنوعيها غير دقيقة، لكن عدم الدقة وارد فى حساب المقياسين (الموضوعى والشخصى) لأسباب يطول شرحها. ثانيا، من الممكن إرجاع الفجوة إلى الاختلاف فى تفسير النتائج وليس إلى دقة الأرقام. فى المثال الذى ذكرته، من الممكن أن يصاحب الزيادة فى متوسط دخل الفرد توزيع غير عادل لثمار النمو، ويزداد إحساس المواطن بالغبن إذا كان سوء التوزيع ناتجا عن عدم تكافؤ الفرص وتفشى الصفقات المشبوهة. وأخيرا، من الممكن أن تحدث الفجوة نتيجة ارتفاع سقف توقعات المواطنين، حتى وإن تحسنت أحوالهم.

أيا كانت الأسباب، هل يستطيع السياسيون تجاهل الرأى العام على خلفية أن الأرقام أكثر دقة مما يشعر به المواطن؟، الإجابة بالطبع «لا»، إلا إذا كنا نتحدث عن دولة يستمد فيها الحاكم قوته من قدرة غير محدودة على استخدام العنف ضد معارضيه. هذا النوع من الدول شديد الندرة هذه الأيام، وبالتالى ليس أمام السياسيين غير خيارين: الاستجابة للرأى العام، أو تقديم شروح تقنع الأغلبية بأن المستقبل يحمل الخير للجميع. فى ظل نظام مبارك، لم يع المسؤولون هذه الحقيقة وكابروا، وبقية القصة معروفة للكافة.

من الممكن إذن توصيف الواقع من زوايا مختلفة، كما أشار العقاد، وليس من المستغرب أن تشير الأرقام إلى نتائج مخالفة لما يشعر به المواطن. هذه الظاهرة تفرض على الجميع أمرين: أولا، ضرورة مساندة كافة جهود تجميع وإتاحة البيانات، وثانيا، ضرورة الاستجابة لما يشعر به المواطن. الفشل فى كلا الأمرين لا يضمن السلام الاجتماعى، كما أثبتت أحداث يناير 2011.



المصرى اليوم