Baseerasincolor - the campaign
<

تقرير الأمن العام


د.ماجد عثمان

فبراير-2013



تقرير الأمن العام هو تقرير سنوى دأبت وزارة الداخلية على إصداره ونشره وإتاحته للخبراء والباحثين منذ عدة عقود، ثم اختفى التقرير فى التسعينيات واشتكى كثير من الخبراء من غياب هذا التقرير. وقد حاولت خلال عملى السابق فى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار الحصول على هذا التقرير ولم تنجح محاولاتى. ولم استطع حتى معرفة ما إذا كانت الوزارة قد توقفت عن إصداره أم أنها تصدره وتمتنع عن إتاحته لسبب ربما يرجع إلى فوبيا الخوف من تداول المعلومات، أو ربما للحيلولة دون استخدام ما يرد فيه من بيانات لتقييم الوضع الأمنى فى مصر.

ثم قامت ثورة 25 يناير لتُسقط كثير من الثوابت ولتُزلزل كثير من العروش ولتفسح المجال لإعادة بناء الدولة المصرية على أسس سليمة.

وجاءت بى الأقدار إلى مقعد وزارى، وعلى الرغم من أن الوزارة التى كنت مسئولا عنها لا علاقة لها بالأمن العام إلا أننى وجدت لزاما على أن أثير أهمية إتاحة تقرير الأمن العام. وكان ذلك فى اجتماع مجلس الوزراء فى جلسته رقم 6 بتاريخ 13/4/2011. واقترحت على المجلس التوجيه بإعادة إصدار التقرير إن كانت وزارة الداخلية قد توقفت عن إعداده وإتاحته للخبراء والباحثين فى مجال علم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم النفس. ولم يكن ذلك نابعا فقط من تحمس لقطع خطوة إلى الأمام على طريق الشفافية والإفصاح عن المعلومات، ولكن أيضا استشعارا بعواقب التردى فى الحالة الأمنية التى شهدته فترة ما بعد الثورة، وإيمانا بأن البحث العلمى الاجتماعى يجب أن تتاح له الفرصة الكافية للتصدى للمشكلات الاجتماعية، واستشعارا بأن كثيرh من هذه المشكلات تبدأ صغيرة ومتناثرة وتتزايد حدتها ويتسع انتشارها كلما طالت فترة التغاضى عنها وإنكار وجودها حتى تصبح ظاهرة عصية على الحل.

وقد أرسل لى اللواء منصور العيسوى وزير الداخلية فى ذلك الوقت – والذى أكن له كل الاحترام – التقرير الخاص بعام 2009. وقد هالنى الجهد الضخم المبذول فى إعداد التقرير والذى يصل إلى ألف صفحة وحجم البيانات التى تتناول الوضع الأمنى فى مصر بكل جوانبه. وتضمن التقرير بيانات تفصيلية عن جنايات القتل والشروع فيه وجنايات الاعتداء الجسيم والخطف والاعتداء الجنسى وجنايات السرقة بالإكراه والحريق العمد وجنايات الأموال العامة وجنايات مقاومة السلطة وجنايات سرقات الأسلاك والكابلات وجنايات المخدرات. كما تضمن التقرير إحصائيات عن الجنح بأنواعها: السرقة والنصب والحريق نتيجة الإهمال والقتل الخطأ والانتحار. ولم يخلُ التقرير من إحصائيات مهمة عن جرائم العنف الأسرى والعنف النسائى وجرائم الأحداث وجرائم الثأر والبلطجة وجرائم تكنولوجيا المعلومات. واشتمل التقرير أيضا على إحصائيات تفصيلية على مستوى المحافظات.

وعندما اطلعت على هذا التقرير التفصيلى تمنيت أن يتاح للخبراء والباحثين فى مصر. وتخيلت ما يمكن أن يُحدثه توفير هذه البيانات لطلاب الدراسات العليا وللخبراء فى مجال العلوم الجنائية من تراكم معرفى فى التطور الذى طرأ على أنواع الجرائم والتفاوتات القائمة بين المحافظات فى أنواع الجرائم وانتشارها وعلاقة ذلك بالتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية فى المحافظات.

ولعله من الواجب أن نشير فى هذا السياق إلى أحد الصروح العلمية المصرية وهو المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية والذى يضم نخبة من المتخصصين فى جميع المجالات والذى يعكس اسمه اهتماما خاصة بالعلوم الجنائية. ولاشك أن توفير مثل هذه البيانات سيسمح للمركز بالمساهمة فى إنارة الطريق فى طرح معالجات للوضع الأمنى المقلق الذى تشهده مصر ربما بأساليب أكثر تكاملا تأخذ فى اعتبارها الجوانب الاجتماعية والنفسية ولا تغفل الاعتبارات المحلية على مستوى المحافظات وعلى مستوى البيئة السكنية والحياتية. وسيفيد أيضا إتاحة التقرير للخبراء والباحثين فى العلوم الاجتماعية فى باقى المراكز البحثية والجامعات توظيف العلم فى مكافحة الجرائم وتقديم فهم أفضل للأشكال الجديدة للعنف ولردود الأفعال المبالغ فيها والتى تزيد من الضغط على أجهزة الشرطة.

ومع التسليم بأن وزارة الداخلية بها أكاديمية تضم خبراء فى المجالات الأمنية، ولكنى أظن أن توسيع مجال الإتاحة للبيانات للخبراء المستقلين عن وزارة الداخلية سيكون عظيم الفائدة. فمما لاشك فيه أن الخبراء المستقلين سيكون لديهم هامش أكثر اتساعا من الحرية فى تفسير النتائج وربطها بالأحداث كما أن المتواجدين خارج المؤسسة الأمنية قد يروا ما لا يراه من بداخلها.

وقد وافق مجلس الوزراء على المقترح الذى تقدمت به وأعلن السيد اللواء منصور العيسوى وزير الداخلية أن الوزارة تعد هذا التقرير سنويا وأنه لا يرى بأسا من إتاحته. وكلف المجلس لجنة من ثلاثة وزراء لمراجعة محتوى التقرير وضمت اللجنة وزير الداخلية ووزير العدل بالإضافة إلى شخصى. وتم تقديم عدد من المقترحات لإضافة بعض الموضوعات إلى التقرير، وأصبح هذا التقرير بناء على ما عُرض على مجلس الوزراء واجب الإصدار والإتاحة.

تذكرت هذه القصة مع ما نراه من تردى أمنى يفوق الخيال، أقول ذلك مع إيمانى بأن أجهزة الشرطة تضم مصريين مخلصين يؤدون واجبهم فى أصعب الظروف ويتعرضون لمخاطر وضغوط لا يمكن التقليل منها.

وأهيب من هذا المنبر بالسيد وزير الداخلية أن تقوم وزارة الداخلية بتداول هذا التقرير بشكل دورى (ربع سنوى أو شهرى إذا أمكن) وإعلانه على الملأ حتى يدرك الجميع بشكل موضوعى وبالأرقام التى لا تكذب ولا تتجمل حجم المشكلة التى نواجهها. وربما يضع ذلك السياسيين والنخب المؤثرة أمام مسئولياتهم فى استخدام كل الوسائل الاستباقية وكل الأساليب السياسية لدعم جهود الشرطة فى استعاده الأمن لوطن يتوق إلى الشعور بالأمان.

أتقدم بهذا الاقتراح مع تقديرى لكل المصاعب التى تواجه وزير الداخلية وهى محنة تعرض لها من سبقوه منذ قيام ثورة 25 يناير وسيتعرض لها كل وزراء الداخلية الذين سيبتلون بحمل المسئولية فى الفترة المقبلة. ولا أقصد أن أضيف إلى الأعباء الملقاه على عاتق الأجهزة الأمنية أعباء إضافية قد تبدو لأول وهلة غير ذات أولوية، ولكنى أظن أن الوضع الحالى والذى يتسم بالخطورة يتطلب حلولا متكاملة، وتوظيف لكل القدرات وانفتاح على كل المتخصصين. وعلى الجميع أن لا يبخلوا بعلمهم وخبرتهم من أجل استعادة الأمان وهى نعمة لم ندرك أهميتها إلا عندما شعرنا بأنها تتسلل من بين أناملنا.



الشروق