Baseerasincolor - the campaign
<

إستطلاعات الرأى العام


د.عبد المنعم سعيد

يوليو-2017



تعرف الدولة الحديثة بمؤسساتها، والمدى الذى وصلت إليه فى أداء هذه المؤسسات لوظائفها فى دولة عصرية وتبعا للأغراض التى خلقت من أجلها. وقد اكتسبت مصر الكثير من مكانتها فى المنطقة لأنها، ومبكرا جدا عن باقى جيرانها، عرفت مؤسسات حديثة مثل الوزارة والبرلمان والأحزاب والنقابات والصحافة والإعلام والروابط الأهلية، وغيرها من علامات الحداثة والمعاصرة. ورغم هذا السبق فإن عددا من المؤسسات الحديثة لم تعرفها مصر أو سبقتها إليها دول مجاورة؛ ومن بينها استطلاعات الرأى العام التى تقوم بها مؤسسات ناضجة ولديها القدرات المالية والبشرية لكى تقيس نبض الناس سواء كان ذلك عن مدى الرضاء عن أشخاص أو وظائف أو أوضاع. صحيح أن قياس الرأى العام هو حالة ظرفية ووقتية، وربما تختلف فى مرحلة عنها فى مرحلة أخري، إلا أنها ضرورية فى رسم الخطط وتحديد الأولويات، والمدى الذى يصل إليه الشعب فى الموافقة أو عدم الموافقة على القرارات. وفى كل الأحوال فإن قياس الرأى العام ليس تصويتا كما هو الحال فى الانتخابات، ولكنه مقياس مفيد لمن يتخذ القرار، ولمن يسعى للتأثير فيه.

وفى الوقت الراهن فإنه لا يوجد فى مصر مركز لاستطلاعات الرأى العام سوى مركز «بصيرة» الذى أصبح العين التى نملكها عن نبض وتوجهات الشعب المصرى إزاء قضايا وشخصيات مختلفة. وفى الأسبوع الماضى نشر المركز نتائج استطلاع مدى رضا أهالى المحافظات عن محافظيهم، وبلغ الرضا أقصاه فى محافظة الاسماعيلية 74% وأدناه 38% فى محافظات الجيزة وبورسعيد والسويس. وكانت العينة الكلية 4981 وهى عينة مناسبة لهذا النوع من الاستطلاعات الذى يعتمد على المكالمات التليفونية على الخطوط الأرضية والمحمولة. ولكن الاستطلاعات التليفونية بها عدد من العيوب البنائية حيث نسبة الذين يرفضون الإدلاء بآرائهم تعد عالية حيث تصل إلى 45.5%؛ وإذا أضفنا إليها نسبة «لا يعرفون» الإجابة والتى كانت أقلها فى محافظة بورسعيد 12% وأعلاها فى محافظتى الجيزة والغربية 34% فإن الأغلبية أى أكثر من 50% لن تكون من أصحاب الرأى سلبيا أو إيجابيا الذى يمكن الركون إليه فى تحديد مستوى الرضا. وما لا يقل أهمية عن ذلك أن تحديد مستوى «الرضا» لا يعبر فقط عن مدى القبول أو الرفض النفسى لشخص ما، وهو فى هذه الحالة المحافظ، وإنما أيضا، وهو الأهم، عن الأداء المحدد تبعا لنوعية المشروعات والوظائف التى على المحافظ القيام بها.

ورغم وجود هذه العيوب، فإن استطلاع بصيرة يلقى الضوء على الأهمية المتزايدة التى بات منصب المحافظ معبرا عنها حيث بات الملتقى الذى تنظر إليه الجماهير للوفاء باحتياجات محافظته. فرغم أن القوانين الراهنة لا تساعد المحافظ على الوفاء بالصفة العامة لممثل رئيس الجمهورية فى المحافظة كما جرى العرف فى الحديث عن المحافظ؛ فإن الواقع، وأحيانا المبادرة الشخصية، يعطى المحافظ دورا متزايد الأهمية فى محافظته. وربما آن الأوان لكى يخرج قانون الحكم المحلى إلى الوجود، وتجرى انتخابات المحليات لكى نعطى الديمقراطية فى مصر نطاقا أوسع وأكثر رحابة مما هو عليه الحال الآن. هذا القانون يمكنه أيضا إعطاء الدولة مزيدا من القدرات لتعبئة الموارد المحلية، وزيادة الاستثمارات، والتنفيذ السريع للاستثمارات العامة.

ولكن هذا على أى حال قضية أخري، ربما تناولناها فى وقت آخر، والقضية تظل هى مسألة قياس الرأى العام الذى ظل مغلقا لفترات طويلة فى مصر على المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، والذى كان يجرى بحوثا تظل قابعة إذا ما جرى الانتهاء منها فى المستويات الأكاديمية وبعض منها كان مفيدا لصناعة القرار. ولكن دخول مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية إلى ساحة استطلاعات الرأى العام بدءا من عام 1997 خلق طفرة فى هذا المجال رغم القيود القانونية الواردة على عمليات الاستطلاع؛ بل وجعل جماعة صنع القرار تتخذ من نتائجه مبررا لبعض الإصلاحات التى جرت. وكان أسلوب الاستطلاع الذى اعتمده المركز هو أسلوب المقابلة المباشرة مع باحثين مدربين لاستيفاء إجابات عن أسئلة تضيء الطريق أمام قضية بعينها مثل المشاركة السياسية أو الانتخابات أو إجراءات الإصلاح الاقتصادي. وظل الحال كذلك حتى عام 2012 وبعدها ـ فيما أعلم ـ توقف المركز عن إجراء الاستطلاعات؛ وأصبح مركز «بصيرة» عمليا هو المركز الوحيد الذى يجرى استطلاعات الرأى العام فى الحدود التى بيناها عاليه.

ورغم التقدير الواجب لمركز «بصيرة» والدور الذى يقوم به، والمصداقية التى بناها عبر السنوات الأخيرة، فإن دولة مثل مصر تحتاج، وتستحق، عدة مراكز لاستطلاعات الرأى العام. هذه المراكز سوف تبنى مصداقيتها بنفسها، ويكون مجموعها معبرا عن اتجاهات وتيارات مستمرة أو عابرة، عندما يكون عملها عبر مجموعة من السنوات. ومن المدهش أن يكون لدى الأردن، والأراضى الفلسطينية، وإسرائيل بالطبع، وتونس والمغرب، مراكز مهمة لاستطلاعات الرأى العام، بينما لا يوجد فى مصر إلا مركز واحد يستخدم الاتصال التليفوني. صحيح أن كثيرين فى مصر لديهم تحفظات عدة على مثل هذه الاستطلاعات، وهناك من يعتبرها مستحيلة نظرا لاعتبارات ثقافية يعددونها، والبعض الآخر يراها مصطنعة يمكن استخدامها لأغراض غير بريئة؛ ولكنها فى هذا الأمر لن تختلف كثيرا عن كل المؤسسات الحديثة فى الدولة من البرلمان للأحزاب لوسائل الإعلام التى يمكن أن تفسد أو تفقد المصداقية أو تستخدم فيما ليس فيه فائدة للبلاد.

إننى أدعو الأستاذ عبد المحسن سلامة ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ومعهد التخطيط القومي، ومركز البحوث والدراسات السياسية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وغيرهم من المؤسسات المرموقة، عامة وخاصة، إلى أخذ زمام المبادرة أولا فى جعل الإطار التشريعى لاستطلاعات الرأى العام مماثلا لذلك الذى يعمل فى البلدان الحديثة؛ وثانيا للبدء فى القيام باستطلاعات الرأى العام والدراسات المصاحبة لها. الطريق إلى تقدم مصر طويل، ومعرفة رأى الشعب خلال هذه المسيرة ضرورى.



الإهرام